المس الشيطانى بين الحقيقة وتهويلات المشعوذين

المــــــــــسّ الشيــــــــطاني بين الحقيقة وتهويلات المشعوذين

بقلم الشيخ : محمد مناعي

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله

وصحبه أجمعين وبعد : إن ما يعرف بقضية المس الشيطاني أصبح أمرا

مثيرا للجدل حتى عند العلماء وذوي الاختصاص فمنهم المؤيد ومنهم

المعارض ومنهم المعتدل ومنهم المغالي , أما عند الذين اتخذوا هذا العمل

حرفة للارتزاق من الرقاة الجهلة والدجالين والمشعوذين فحدث ولا حرج

فتراهم يبالغون ويضخمون في قضية المس الشيطاني وحالات الصرع ، ويركزون
على هذا الجانب بأن الناس جميعا عرضة لهذه الآفة وتحت تأثيرها ، ويعتقدون أن للجن القدرة المطلقة في التسلط على البشر وأذاهم كيف ما أرادوا ومتى شاءوا ، ويؤكدون ادّعـاءهم هذا بصـرع المصابـين ، ومخاطبة الجن والحديث معهم ، ويرون أنها براهين ومؤيّدات لمعتقداتهم الباطلة . وما هي في الحقيقة إلا شعوذة ودجل ما أنزل الله بها من سلطان ، ونوع من تلاعب الشيـطان بهؤلاء الرقاة ، إضافة إلى أنها ضلالة عصرية لم تـكن معروفة زمن النبي  والسلف الصالح ، ناهيك عما يترتب عنها من إثارة الفتن والعداوات ووقوع المشاكل والويلات بين الناس .
إن أصل أذى الشيطان للبشر هو : الوسوسة ، والنزغ ، والدعوة بالإيحاء ، والإغواء بتزيين الباطل ، قال تعالى : .. من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس  الناس 4/5 ،  وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه سميع عليم  الأعراف 200 ،  وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعـوتكم فاستجبتم لي  إبراهيم 22 ،  قال فبعزتك لأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين  ص 82/83 .
وقد يقع أحيانا مسّ من الشيطان وهو نادر جدا ،وهو ما أثبته القرآن العظيم في قوله تعالى: الذين يأكـلون الربــا لا يقـومون إلا كما يقوم الذي يتخـبطه الشيطان من المس  البقرة 275 .
ولطرده نكتفي بالرقية الشرعية دون الحاجة إلى ( معالج محترف ) ، ولا يشترط أن يصرع المريض ، أو يتكلم الشيطان على لسانه، أو نخاطبه أو نحاوره، والدليل على الشفاء هو التحسن وزوال الألم ، وإلا كررنا الرقية الشرعية التي سيأتي ذكرها لاحقا .

وهذا ما فعله النبي  مع عثمان بن أبي العاص حـين جاءه شـاكيا من الشــيطان ، فـضرب على صـدره بيده وقال : (( أخرج عدوّ الله )) فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : (( الحق بعملك )) . قال عثمان : (( فلعمري ما حسبته خالطني بعد .)) (1) .ومما ينبغي علمه أن
الصدمات المرعبة والحوادث المروعة قد تؤدي أحيانا إلى خلخلة في المخ ، وفقدان مؤقت للعقل يشبه حالة الجنون ؛ كالساقط من سطح ، أو متردّ من جبل ، أو الذي صدمته سيارة أو صبّ عنه ماء حار أو بارد ، أو اعترضه حيوان ضار ، أو بلغه خبر مفجع ، فالعرف السائد أن أول ما يسعف به هذا أن يؤتى له براق محترف لاعتقادهم أن به مسّ ، وتبدأ هنا رحلة طويلة وشاقة بين الرقاة والمشعوذين تتخللها أساليب من الأكاذيب والألاعيب قد تؤدي بالمصاب إلى الجنون الدائم أو القضاء عليه ولو ترك المريض وشأنه لشفي وعوفي بمرور الوقت بإذن الله تعالى .
إن ما يعرف بمخاطبة الجن عندما يصرع المريض من طرف بعض الرقاة له صلة وثيقة وارتباط قوي بما يعرف بلعبة استحضار أرواح الموتى ، حيث نجد شياطين الجن تتلاعب بقرنائها من شياطين الإنس في كلتا الحالتين ؛ ففي الحالة الأولى التي هي مخاطبة الشيطان أو الجن للإنسان نلاحظ ما يلي : الشيطان يلبس على الراقي ويكذب بقوله مثلا : أنا جن مسلم اسمي حسن أسكن في مصر ، أو نصراني اسمي جورج قادم من إنكلترا ، سكنت هذه المرأة لأتزوجها، أو لأنها آذتني بكذا ،أو أنا موكل بسحر عمل لها من طرف فلان أو فلتان ، ولن أخرج إلا بشروط كذا وكذا.

وقد ترى المصروع يتكلم بلغة أجنبية أو بمعلومات ومعارف ما كان يعرفها ولا يدريها ، وما هو في الحقيقة إلا كذب الشيطان القرين الذي يلبس على الراقي ومن معه . وفي الحالة الثانية والتي تعرف بجلسات تحضير الأرواح عند أهل هذه الضلالات ، يأتي المحضر الذي يشبه الراقي تماما بوسيط وبعد عمل ما يلزم يزعم أن روح الميت قد حلت في الوسيط ، ثم يبدأ هذا الأخير في الحديث عن كل ما يتعلق بأحوال الميت من أمور حياته الخاصة والعامة ، وقد يتكلم بلغة أجنبية أو بعلوم ومعارف ما كان يدريها ولا يعلمها ذاك الوسيط قي حياته قط ، تماما كما في الحالة الأولى بصفات متشابهة ومتماثلة أو مختلفة نوعا ما ولكنها تتفق وتتطابق في كونها تلبيسات شيطانية مما يقوم به القرين الذي كان يلازم الميت قبل وفاته ، وهاهو الآن يقلده بما يعرفه عنه ؛ والشياطين اذ تقوم بهذه الجهود المضنية إنما تريد بها إضلال المسلمين وإفساد عقائدهم وتكفيرهم ونشر الفتن والعداوات بينهم.
وهنا يبرز سؤال مهم مفاده: هل يجوز شرعا مخاطبة الجن المتلبس بالمصر وع ؟
ـ أقــــــوال العــــــــــلماء في مخـــاطبــــــة الجـــــــن :

1ـ(( ولقد درج بعض الرقاة على مخاطبة الجني وسؤاله والاستعانة به على معرفة الغيب والأشياء المفقودة ، ومعالجة المصابين ، مما يترتب على ذلك مصايب كبيرة كاتهام الأبرياء وإحداث الفتن والتضليل ... وغالبا ما ينشأ هذيان المصاب نتيجة إيهام المعالج المصاب أنه ممسوس . والإيحاء النفسي والعقل الباطن وضعف الشخصية له دور هام في حدوث هذا الهذيان ، ويظن المعالج أن الذي يتكلم هو الجن، وقد يكون هناك اختلال في خلايا المخ يحتاج فـيها المصاب إلى الطب النفسي.)) (1)سعد يوسف أبو عزيز . بدع المعالجين بالقرآن .ص23 /24

2 ـ (( وغالب الحالات التي توهم نفسها بوجود مسّ من الجن في جسدها رأينا بالتجربة أنها أوقعت نفسها في دائرة الوهم بسبب تشخيصات المعالجين وكذب السحرة والدجالين )) (1)نفس المرجع ص 64 .(( وبعض المعالجين يسأل الجني ويصدّقه ويتلقى منه الأوامر ، يشخّص له الداء ويصف له الدواء . فهل صار الشيطان إماما ومصدرا من مصادر التلقي عوضا عن العلماء . )) (2) .ص 25

3 ـ (( التعامل مع الجن ضلالة عصرية ، لم نكن نسمع بها من قبل هذا الزمان ، نعم يمكن أن يكون هناك نوع من التعامل بين الإنس و الجن ولكن هذا نادر جدا جدا ولا يمكن ذلك مع الندرة إلا إذا شاء الجن ، وأما أن يشاء الإنس أن يتعامل مع الجن رغم أنف الجن فهذا مستحيل، لأن هذا كان معجزة لسليمان ع س )) (3)الألباني

4 ـ (( سؤال : هل يجوز للذي يعالج المرضى بقراءة القرآن الكريم أن يضرب ويخنق ويتحدث مع الجن وجزاكم الله خيرا ؟.
الجواب : هذا وقع شيء منه من بعض العلماء السابقين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وأما المـبالغة في هذه الأمـور مما نـسمعه عن بعـض القراء فلا وجه له.))(4).إبن باز والعثيمين – الفتاوى الذهبية .
قلت : وما فعله ابن تيمية في هذا المجال ما فعله رسول الله ص ولا الصحابة ض وبالتالي فهو ليس حجة يعتمد عليها ، بل الحجة خلاف ذلك .
5 ـ (( احرص أثناء رقيتك على المريض أن لا تدع الشيطان يتكلم على لسانه ، بل لطرده وإبعاده ، لأنه يحصل من الفتن ما الله به عليم ، حيث الكذب والافتراء ورمي الناس بالسحر ، حيث الكذب سجيتهم ، وبعض القراء ـ هداهم الله ـ يتعمد سؤال هذا الجان المتلبس بهذا المريض عن بعض حالات المرضى عنده ويأخذ بكلامه ويحمله على التصديق به ، وكل هذا مخالف للحقيقة ، لأن هدف الشيطان هو التفريق وزرع الشجار بين الأقرباء ، فلا يؤخذ بكلام الشيطان نهائيا وقطعا لبذور الفتنة . )) (1) .ع السدحان , قواعد الرقية الشرعية .

6 (( .. مخاطبة الجن : أوّله لذّة ، وأوسطه فتنة ، وآخره ضلالة .))(2)س البريك

7 ـ (( .. وموهبة إخراج العفاريت من الأجسام المسمومة موهبة يدّعيها نفر من الناس أغلبهم يحترفون الدجل ، وأقلهم يستحق الاحترام ، وأعرف بعض المسلمين يزعم هذا ، وأشعر بريبة كبيرة نحوه .)) (3) م الغزالي /قذائف الحق .ص48

8 ـ (( إن الجان ثابت ، وإن الصرع حقيقة ، قد تواترت بذلك أخبار الثقات ، بل كتب الصحاح وأهل السنن ، ومع ذلك نؤكد أن حالات المس قليلة جدا ، وأكثر من يظنون أنهم ممسوسون لا يعانون في الحقيقة مسا ولا سحرا ، وإنما هم ضحايا التغييرات الاجتماعية والسياسية السريعة المعقدة ..))(4) أبو جرة سلطاني – االسحر والجن ص93

9ـ (( والرقاة إنما يستغلون جهل الناس وقلّة علماء الأمة واستسلام بعض الموسوسين لسياسة الأمر الواقع ، حيث تنتهك حرماتهم وتبذر أموالهم وتضيع أعمارهم في الجري وراء ( بركة الشيوخ ) وما هم إلا شيوخ نجد ، وما فيهم بركة إلا بركة اللحية المظلومة ..)) (5ا)لمرجع السابق ص93.

ـ حــــــديث صـــــحيـــــح يحـــــــتاج إلى تــــــوضيح :

والأمر الآخر الذي نريد أن نوضحه للجميع أن الحجة والدليل الذي يعتمد عليه أصحاب كتب الرقية المعاصرون والقدامى في تهويلهم لقضية المس والصرع هو حـديث النبي  : (( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )) الثابت في الصحيحين . ولعلهم وهموا حين اعتقدوا أن الشيطان يجري في دم الإنسان شأنه شأن كريات الدم الحمراء والبيضاء متى شاء وكيفما أراد ، إذ لو صحّ هذا الاعتقاد لأصبح كل بني آدم لعبة بل ملاعب للشيطان ؛ بداية من آدم  ، إلى رسول الله إلى آخر بشر يفنى على هذه الأرض . ومادام هذا مستحيلا ولا يقول به عاقل ـ ناهيك عن عالم ـ فإن المقصود من جريان الشيطان في دم ابن آدم هو : وساوسه ، ونزغاته ، وإيحاءاته وليس ذاته وهذا هو الصواب في رأينا ـ والله أعلم .
وللتوضيح أكثر نعود إلى الحديث بكامل لفظه وسببه الذي رواه البخاري ومسلم (1) من حديث صفية بنت حُـيَـيْ ـ رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله  ، معتكفا ، فأتيته أزوره ليلا فحدثته ، ثم قمت فانقلبت ، فقام معي ليقلبني ، وكان مسكـنها في دار أسامة بن زيـد ، فـمرّ رجـلان من الأنـــصار، فلما رأيا النبي  أسرعا ، فقال النبي : (( على رسلـكما إنها صفـية بنت حـيي )) قالا: (( سبحان الله يا رسول الله )). قال : (( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال شرا )) .
والواضح من هذا الحديث أن النبي  يقصد سرعة انتقال الوساوس الشيطانية في عقل ابن آدم ، وأنها تجري فيه كجريان الدم ، أي بسرعة مذهلة ، بدليل الشطر الثاني من الحديث وهو قوله : فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ـ أو قال : شرا.
(( والمحصل من هذه الروايات أن النبي  ، لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءا لما تقرر عنده من صدق إيمانـهما ولكـن خشي عليهما أن يوسـوس لهما الشيطان ذلك ))(1).
وهذا أراه مثلا ضربه النبي  ليحذرنا من وساوس الشيطان وإيحاءاته ونزغاته السريعة الأثر .. أما أن نفهم منه أن الشياطين تتدفق في عروقنا وتجري في دمائنا ؛ تسكن من شاءت ، وتدخل وتخرج وقت ما أرادت ، فهذا هو الخطأ الجسيم المتولّـد من الفكر العقيم ، والذي جعل أحدهم يقول في كتابه وهو يتحدث عن الجن وكيف يسكنون أجساد البشر : إنهم لا يسكنونهم أفرادا فحسب ، بل جماعات في البشر الواحد ، وليسوا لوحدهم بل معهم حميرهم وكلابهم وما يحتاجونه للإقامة (2) .ماهر وليد كوسا – في كتاب فيض القرآن في علاج المسحور .ص 70.
إنه هراء وتخريف لا ينمّ ولا يدلّ إلا على جهل بالدين والدنيا ، فأين عناية الله بعباده الذي يقول :  أليس الله بكاف عبده . الزمر 36 ،  فالله خير حفظا وهو أرحم الراحمين  يوسف 64 ،  له معقبات من بين يديه ومن خـلفه يحفـظـونه من أمر الله .  الرعد 11 . فهل أصبحت أجساد المسلمين إسطبلات لحمير الجن وكلابهم ؟؟
أخيرا أسأل الله أن يهدينا ويصلح أمورنا وان يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه , فإن أصبت فبتوفيق من الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

بقلم: الشيخ محمد مناعي .( محمد 46 )