لقد كان الحجاج ظالما شديد الطغيان..أعمل في الناس السيف وأكثر فيهم القتل بحق وبغير حق..
فأمهله الله وأمهله ..لعله أن يراجع نفسه فيعود..أمهله لعله أن يستغفر ويتوب..أمهله أرحم الراحمين وفتح له باب التوبة مرارا وتكرار لعله أن يتعظ ..ولكنه تمادى وتكبر وتجبر ..ولم يستفد مما أعطاه الله من فرص..
فلما كان كذلك قصمه الذي يمهل ولا يهمل..وقد كان له العديد من القصص ومن أشهرها قصته مع سعيد بن جبير ذلك العابد الزاهد والعلم الشامخ..وقد كانت في هذه القصة نهاية الحجاج..
وقد أورد القصة ابن كثير والذهبي وابن خلكان وغيرهم..وفيها الكثير من العبر..
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: (مقتل سعيد بن جبير رحمه الله
قال ابن جرير: وفي هذه السنة (أي سنة 95هـ) قَتلَ الحجاجُ بن يوسف سعيدَ بنَ جبير وكان سبب ذلك أن الحجاج كان قد جعله على نفقات الجند حين بعثه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك الترك فلما خلعه ابن الأشعث خلعه معه سعيد بن جبير فلما ظفر الحجاج بابن الأشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه فلما سمع بذلك سعيد هرب منها ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج ثم إنه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها فقال سعيد والله لقد استحييت من الله مما أفر ولا مفر من قدره وتولى على المدينة عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجاج في القيود فتعلم منه خالد بن الوليد القسري فعين من عنده من مكة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر وعمرو بن دينار وطلق ابن حبيب ويقال إن الحجاج أرسل إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواماً من أهل الشقاق فبعث خالد بهؤلاء إليه ثم عفا عن عطاء وعمرو بن دينار لأنهما من أهل مكة وبعث بأولئك الثلاثة فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل وأما مجاهد فحُبس فما زال في السجن حتى مات الحجاجُ وأما سعيد ابن جبير فلما أوقف بين يدي الحجاج
قال الحجاج: ما اسمك؟
سعيد: سعيد بن جبير.
الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
الحجاج: شقَيت أمك وشقيت أنت.
سعيد: الغيب يعلمه غيرك.
الحجاج: لا بد لك بالدنيا نارا تلظى.
سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.
الحجاج: ما قولك في محمد؟.
سعيد: نبي الرحمة وإمام الهدى.
الحجاج: ما قولك في علي, أهو في الجنة أم هو في النار؟..
سعيد: لو دخلتها وعرفت من فيها, عرفت أهلها.
الحجاج: ما قولك في الخلفاء؟.
سعيد: لست عليهم بوكيل.
الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟.
سعيد: أرضاهم لخالقي.
الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟.
سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
الحجاج: أحب أن تصدُقَني.
سعيد: إن لم أحبك لن أكذبك.
الحجاج: فما بالك لم تضحك؟.
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين, والطين تأكله النار!!.
الحجاج: فما بالنا نضحك؟.
سعيد: لم تستو القلوب.
ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت, فجمعه بين يديه.
قال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت, ولا خير في شيء من الدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بالعود والناي, فلما ضرب بالعود ونفخ بالناي بكى سعيد.
فقال: ما يبكيك؟ أهو اللعب؟.
قال سعيد: هو الحزن, أما النفخ فذكرني يوما عظيما يوم ينفخ في الصور, وأما العود فشجرة قطعت من غير حق!! وأما الأوتار فمن الشاة تبعث يوم القيامة!!.
قال الحجاج: ويلك يا سعيد.
فقال: لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة.
قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟.
فقال: اختر أنت لنفسك فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال: أتريد أن أعفو عنك؟.
فقال: إن كان العفو فمن الله, وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه, فلما خرج ضحك فأخبر الحجاج بذلك فردوه إليه.
وقال: ما أضحكك؟.
فقال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك.
فأمر بالنطع فبسط.
وقال: اقتلوه.
فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: وجهوا به لغير القبلة.
قال سعيد: فأينما تولوا فثمّ وجه الله.
قال الحجاج: كبوه على وجهه.
قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
قال الحجاج: اذبحوه.
قال سعيد: أما أنا فأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله, خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة, اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي).
وقتل الحجاج سعيد بن جبير..لكن الله العدل اقتص منه في الدنيا والعلم عند الله فيما يلقاه في الآخرة..
فقد سلط الله عليه مرضا بعد فترة قصيرة من قتله لسعيد بن جبير..فما زال الحجاج يصيح ويقول مالي ولسعيد بن جبير مالي ولسعيد بن جبير حتى مات..
وهكذا يملي الله للظالم ولكنه لا يهمله أبدا ..يأخذه بغتة ..ولعذاب الآخرة أشد نسأل الله العافية..